7 Aug 2011

النضال السلمي للشعوب (2): سقوط الديكتاتور في غواتيمالا 1944



عام 1931 وصل الجنرال اُبيكو الى السلطة ، و كان معروفاً من الشعب بقبضته الحديدية منذ أن كان في مدينتي ألتابيراباز و تيتالوليو، و بأنه زعيم ما يسمى "فن المؤامرة".
كان الجنرال المذكور قد نظم شبكة مترابطة لما يسمى "مجموعات الخمسة"، و الخمسة ترمز الى احرف اسم الديكتاتور ، فبلغ عددها الإجمالي ما يقارب 7000 عضو دون حساب عناصرها داخل العاصمة. كان عليهم "الإندساس" في جميع جوانب الحياة و المؤسسات الحكومية و الرسمية. و لم تكن اي "مجموعة خمسة" تعرف شيئا عن المجموعات الأخرى، مما جعلها بدورها تخضع لنفس نظام الرقابة و التجسس، وكان الجنرال هو الشخص الوحيد الذي يمسك بخيوط هذه الشبكة القمعية العالية التنظيم.
كان الهدف الأقرب الى الجنرال هو الترهيب و القمع لكسب الإنتخابات، حيث كان يطمح الى حكم غواتيمالا مدى الحياة (إلى الأبد)، كما كُشِفَ في فترة لاحقة لسقوطه.
بدأت بعض الصحف الأمريكية بوصف اُبيكو "بالدكتاتور الشعبي"، أما اسبوعية التايم فقالت أنه معجب بالتطهير الذي قام به هتلر عام 1934، وانه كان يردد دوما: " أنا كهتلر، أولا أنفذ، ثم أنظم المحاكمات ".
خلال الحرب العالمية الثانية، بدأت سطوة الديكتاتور بالإنهيار و اضاع كثيرا من مؤيديه، خصوصا عام 1942 بُعيد مصادرة حقول البُن المملوكة للألمان في غواتيمالا. أما بالنسبة لسياساته الداخلية فكانت قد أثرت بشكل سلبي على الجميع ، العمال و اصحاب الشركات و الموظفون على حد سواء.
عندما سقط ديكتاتور السلفادور، البلد الجار لغواتيمالا، تحت ضغط مقاومة شعبية سلمية، أدرك شعب غواتيمالا أن العدوى ستنتقل الى بلدهم و ان السلفادور أعطتهم مثالا عظيما عن الكيفية التي عليهم أن يتبعوها، فبدأ الشعب عمله بطريقة سرية تامة.
في حزيران من عام 1944، بدأ شعور قوي  بمعارضة ممارسات النظام القمعية بالظهور، و كان جليا ان الشعب يريد نيل حريته و اسقاط الديكتاتور، فبدأ الحراك بين طلاب و أساتذة جامعة سان كارلوس.
كان الطلاب قد قدموا وثيقة للجنرال للمطالبة ببعض الإصلاحات ، و اطلاق سراح طلاب كلية الحقوق المعتقلين على خلفية معارضتهم لسياساته، كما طالبت الوثيقة بشروط أفضل للحياة و رفع اجور الموظفين و العمال ذوي الدخل الأقل. الوثيقة لاقت دعم كثير من القطاعات الشعبية في العاصمة و في مدن أخرى.
رد الديكتاتور برفع رواتب الموظفين في قطاعات الدولة بنسبة 15%، لكن الشعب اعتبر أن لا قيمة لهذه الزيادة و انه غير راض عن اصلاحات الديكتاتور (الشكلية)، أما الطلاب فقد ارادوا الحديث مع الجنرال وجها لوجه لكنه رفض، فنظموا مظاهرات سلمية ردا على موقفه السلبي. قابلت قوى الشرطة و الجيش المتظاهرين بنصب المدافع و الرشاشات في الشوارع، و كانت الأوامر الى سلاح المشاة بالجهوزية القصوى للتدخل لفض التظاهرات.
أول مواجهة كانت في احد أيام الأحد، حيث انطلقت مظاهرات حاشدة رافعة لافتات كبيرة مع كلمة " اِرحَل"، و بدون اي سلاح لأنهم كانوا قد قرروا ان تحركهم سلمي و يجب ان يستمر حتى النهاية بالطريقة السلمية. لكن هذا لم يمنع قوى البوليس و الجيش من مقابلتهم بالرصاص الحي، فسقط عدد من الشهداء و الكثير من الجرحى.
دخلت البلاد بعد هذه المواجهة، و لمدة يومين في صمت حذر يشوبه التوتر العالي، بعدها طالبت مجموعة من المحامين و أساتذة الجامعات الجنرال اُبيكو بإحترام الحقوق الأساسية للمواطنين، فتم اعتقال عدد كبير منهم، أما الطلاب فعادوا للخروج الى الشارع حاملين لافتاتهم التي حمل أغلبها عبارة واحدة من ثلاث كلمات : "السيد خورخي(1)، اِرحل". و كانوا يقبلون الإعتقال بصمت و رضى تام دون ان يعترضوا. ما لبث بعد ذلك ان انضم شباب المدارس الثانوية و الإعدادية الى الحراك (مدعومين معنويا من عائلاتهم الصامتة و الخائفة)، حاملين نفس الرسالة : "السيد خورخي، ارحل". و كانوا كأقرانهم من طلاب الجامعات يرضون بالإعتقال بدون أي اعتراض أو مقاومة. في هذا الوقت بدأت النقابات تدخل في الحراك و ان بشكل خجول بداية الأمر، ثم انضم سائقو التاكسي و الحافلات الكبيرة التي حملت على زجاجها الأمامي نفس الرسالة: "السيد خورخي، اِرحَل".
في العاصمة و في المدن الأخرى، كانت الناس تخرج الى الشوارع و تمشي مشبوكة اليدين في تعبير عن معارضتها. و امتدت روح المعارضة الجماهيرية لتشمل قطاعات واسعة من الشعب.
كان الشغل الشاغل للديكتاتور، كيف يقضي على المعارضة السلمية.
في 20 حزيران تم اطلاق بيان تشكيل الحزب الإشتراكي الديموقراطي، الذي دعا المعارضة الى تشكيل احزابها المستقلة، و تحقيق العدالة الإجتماعية، و نهاية نظام القمع و التضامن بين بلدان أمريكا الجنوبية. فأعلن الديكتاتور المتعجرف حالة الطوارئ في البلاد.
بعد ثلاثة ايام من تصفية الطلاب الجماعية في السجون، تم اعلان الإضراب العام في جميع انحاء البلاد من قبل الشعب الذي ادرك ان المقاومة الأخلاقية بالطرق السلمية هي القوة الأجرئ و التي لا تهزم.
و بدأ التعاطف مع التحركات الشعبية يظهر بين صفوف البوليس و الجنود النظاميين في الجيش، الذين كانوا ذوي اصول ريفية بسيطة ، و بدؤوا بتواتر أكبر كل مرة ، يمتنعون عن اعتقال المتظاهرين السلميين، حتى وصل الأمر الى القضاة، فامتنع بعضهم عن تجريم أو محاكمة المتظاهرين، فما هي التهمة التي يجب ان توجه اليهم؟ و هم تظاهروا بصمت، و بأخلاقية عالية و لم يرمو حتى حجرا واحدا، بل كانوا يواجهون تجمعات البوليس بنفس الوتيرة متابعين صمتهم و رافعين شعارهم الرئيسي، الذي تحول الى غنائية رددها الشعب كاملا: "السيد خورخي، ارحل".
يوم 23 من حزيران، بدأ الأساتذة اضرابهم العام لدعم الحراك، و التجار عمدوا الى اغلاق محلاتهم، و انضم اليهم فيما بعد اصحاب البنوك. فما كان من الديكتاتور الا ان فرض غرامات على كل البنوك التي شاركت.
في ظهر نفس اليوم ، تجمعت مئات النساء بثياب الحداد في كنيسة سان فرانسيسكو، و تمت اقامة عظة خاصة للتعبير عن الألم العميق الذي تركه استشهاد الطلاب و تصفيتهم كما قدم العزاء لأهالي الشهداء، ثم انطلقوا بمظاهرة صامتة في شوارع العاصمة الكبرى. واجهتها قوات البوليس و الجيش و فضتها بوحشية، فجرح ما يزيد عن 200 امرأة، و قتل 70. عندها أعلن كل آباء الكنائس الإنضمام الى الحراك الشعبي الذي ينشد الحرية، فأغلوا ابواب الكنائس و امتنعوا عن اي طقس.
يوم 24 حزيران، توجهت جموع المتظاهرين و الطلاب الى سفارة الولايات المتحدة، و خطب احدهم طالبا من الديكتاتور التنحي و اكد على سلمية الثورة. فيما سلم في ظهيرة نفس اليوم، اثنان من الناشطين "بيان الـ311 غواتيمالي" الى الديكتاتور ، و هم 311 شخصية عامة و مثقفة و ذات حضور في الأوساط الشعبية، البيان من جهته شرح اسباب الثورة، و طالب بضمانات دستورية واضحة و حقيقية، و بإلغاء الأحكام العرفية.
فتحت السفارة المكسيكية في العاصمة ابوابها لإستقبال اللاجئين و الفارين من توحش الديكتاتور و قواته، و أعلنت أنه : "بالنسبة لنا، فإن القوانين الإنسانية ليست مجرد حروف مكتوبة في الوثائق و الأوراق، و نحن نعرف جيدا كيف يجب ان نتصرف".
المتظاهرون من جانبهم، طالبوا السفارة المكسيكية، بإيصال ما يحدث الى العالم و كشف حقيقة الثورة الشعبية السلمية العظيمة التي يخوضها أبناء غواتيمالا و وحشية القمع الذي يتعرضون له. فأرسلت السفارة مبعوثا خاصا الى المكسيك لينسق الإتصالات و يباشر على الفور المهمة.
المعارضة التي كانت لا تزال في طور التشكل، اوصلت رسالة الى الديكتاتور تطالبه نزولا عند مطالب الشعب بالتنحي الإختياري، و الغاء الأحكام العرفية، حرية الصحافة و التنظيم، و وقف الهجوم الأمني على المواطنين.
أما الإضراب الإقتصادي (الصامت) فقد كان مستمرا ، و بدأت على اثره السلطة بالتشقق.
يوم السبت، كان الجنرال خورخي ابيكو في وضع يائس و حرج للغاية، فقد أدرك الواقع الذي فرض نفسه : "لم يعد يحكم غواتيمالا"و أن الشعب قد "كسر حاجز الخوف"، و أن كل النموذج الذي بناه على مر 13 عاما عن طريق القمع، و شبكة البوليس السري ذات التنظيم العالي، و القطع العسكرية التي عدها الى جانبه، كل هذا كان "يتفكك" تحت وقع المقاومة السلمية، التي  هتفت بصوت واحد من الشمال الى الجنوب، و من الأطلنطي الى الباسيفيك : "اِرحَل".
غادر الديكتاتور البلاد يوم 1 تموز من العام 1944، و آل حكم البلاد الى جنرالات الجيش، و بدأت حركة غنية من التنظيمات السياسية و المدنية تخرج من كل مكان، و عاد المنفيون الى البلاد.
من الضروري الإعتراف ان النصر الذي تحقق باسقاط الديكتاتور لم يوظف بالطريقة المثلى للوصول الى ديموقراطية حقيقية فيما بعد، لكنه لا ينفي كونه نصر كبير للشعب و طريقة نضاله على حد سواء.
تكتب ماريا لوسينتال: "هذا الديكتاتور النذل، كان بإمكانه القضاء على اي تحرك أو تمرد مسلح، كان بإمكانه الإستبداد برأيه و أن يرفع مشيئته فوق مشيئة الشعب من المدنيين أو العسكريين على حد سواء، لكنه وجد نفسه أمام عصيان مدني سلمي ، فقمعه بالعنف، حتى وصل الى حيث يصل كل طاغية: فإما أن يصفي كل من لا يتفق مع رأيه، أو أن يرحل ".
الحراك الذي أرسل نابليون غواتيمالا الى الـ"واترلو" الخاص به، كان حراكا سلميا مدنيا، يقوم على الإلتزام، و الإرادة،والكثير من الصبر، و لم يفرق بين الطبقات أو الأصول العرقية أو التوجهات السياسية لجميع المواطنين.
 في مرحلة ما بعد سقوط الطاغية، دعا الغواتيماليون الى مجلس تأسيسي، وضع دستورا جديدا للبلاد، و أقر اصلاحات زراعية ضرورية، و نظام تعليمي جديد ساوى بين السكان الأصليين و المختلطين، و أقر الحق في التنظيم الجماعي و العمل السياسي، وحرية الصحافة و التعبير. و كرمز لعملية التحول، اختار الناخبون استاذا في اول انتخابات ديموقراطية ، و ليس جنرالا. و مع ان البنية الأوليغاركية لم تتغير بشكل عميق، لكن معرفة الشعب بالقوة الكامنة في النضال السلمي و المقاومة المدنية لن تنسى أبدا.

استخدام  هذا النموذج من النضال من اجل العدالة و الحرية و المساواة الإجتماعية و العرقية و الإقتصادية، يغذي التاريخ بجرعة كبيرة جدا من الأمل.




_________________________________
هوامش:
(1) خورخي أو جورج ، في اشارة الى الإسم الأول للدديكتاتور اُبيكو

المصدر: Sein, Heberto M., "Non-violence politique", dossier 2
ترجمة: صفحة الشعب السوري عارف طريقه

No comments:

Post a Comment